اكتبْ تأريخك بَنفْسِك
كنتُ جالساً في
الحرَمِ في شدَّةِ الحرّ ، قبل صلاةِ الظهرِ بساعةٍ ، فقام رجلٌ شيخٌ كبيرٌ ، وأخذ
يُباشِرُ على الناسِ بالماءِ الباردِ ، فيأخذُ بيدهِ اليُمنى كوباً ، وفي اليُسرى
كوباً ، ويسقيهمُ منْ ماءِ زمزم ، فكلَّما شرب شاربٌ ، عاد فأسقى جارهُ ، حتى أسقى
فِئاماً من الناسِ ، وعَرَقُه يتصبَّبُ ، والناسُ جلوسٌ كلٌّ ينتظرُ دوره ليشرب
منْ يدِ هذه الشيخِ الكبيرِ ، فعجبتُ منْ جلدِهِ ومنْ صبرِهِ ومنْ حبِّه للخيرِ ،
ومن إعطائِه هذا الماءَ للناسِ وهو يتبسَّمُ ، وعلمتُ أنَّ الخير يسيرٌ على منْ
يسرَّه اللهُ عليه ، وأنَّ فِعْلَ الجميِل سَهْلٌ على منْ سهَّلهُ اللهُ عليه ،
وأنَّ للهِ ادِّخاراتٍ من الإحسانِ ، يمنحُها منْ يشاءُ منْ عبادهِ ، وأنَّ اللهُ
يُجري الفضائل ولو كانتْ قليلةً على يدِ أناسٍ خيرِّين ، يحبُّون الخيْر لعبادِ
اللهِ ، ويكرهون الشَّرَّ لهم .
أبو بكر يعرِّضُ
نفسه للخطرِ في الهجرةِ ، حمايةً للرسولِ r .
وحاتمُ ينامُ
جائعاً ، ليشبع ضيوفه .
وأبو عبيدة يسهرُ
على راحةِ جيشِ المسلمين .
وعمرُ يطوفُ
المدينة والناسُ نيامٌ .
ويتلوى من الجوعِ
عام الرَّمادة ، ليُطعم الناس .
وأبو طلحة يتلقى
السهام في أُحُدٍ ، ليقي رسول اللهِ r .
وابنُ المباركِ
يُباشِرُ على الناسِ بالطعامِ وهو صائمٌ .
﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ﴾ .
********************************************
أنْصِتْ لكلامِ اللهِ
هدِّئ أعصابك بالإنصاتِ
إلى كتابِ ربِّك ، تلاوةً مُمتعةً حسنةً مؤثِّرةً منْ كتابِ اللهِ ، تسمعُها منْ
قارئٍ مجوِّدٍ حَسَنِ الصوتِ ، تصلُك على رضوانِ اللهِ عزَّ وجلَّ ، وتُضفي على
نفسِك السكينة ، وعلى قلبِك يقيناً وبرداً وسلاماً .
كان r يحبُّ
أنْ يسمع القرآن منْ غيرِهِ ، وكان r يتأثَّرُ
إذا سمع القرآن منْ سواهُ ، وكان يطلُبُ منْ أصحابِه أنْ يقرؤوا عليهِ ، وقد أُنزل
عليهِ القرآنُ هو ، فيستأنسُ r ويخشعُ
ويرتاحُ .
إنَّ لك فيهِ أسوةً
أنْ يكون لك دقائقُ ، أو وقتٌ من اليومِ أو الليلِ ، تفتحُ فيهِ المذياع أو
مسجّلاً ، لتستمع إلى القارئِ الذي يعجبُك ، وهو يتلو كلام اللهِ عزَّ وجلَّ .
إنَّ ضجَّة الحياةِ
وبلبلة الناسِ ، وتشويش الآخرين ، كفيلٌ بإزعاجِك ، وهدِّ قُواك ، وبتشتيتِ خاطرِك
. وليس لك سكينةٌ ولا طمأنينةٌ ، إلاَّ في كتابِ ربِّك وفي ذكرِ مولاك : ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ
بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ
﴾ .
يأمرُ r ابن
مسعودٍ ، فيقرأ عليه منْ سورةِ النساءِ ، فيبكي r حتى
تنهمر دموعُه على خدِّه ، ويقولُ : (( حسْبُك الآن )) .
ويمرُّ بأبي موسى
الأشعريِّ ، وهو يقرأُ في المسجدِ ، فيُنصتُ لهُ ، فيقولُ له في الصباحِ : ((
لو رأيتني البارحة وأنا أستمعُ لقراءتِك )) ، قال أبو موسى : لو أعلمُ يا رسول
الله أنك تستمعُ لي ، لحبَّرْتُهُ لك تحبيراً .
عند ابن أبي حاتم
يمرُّ r بعجوزٍ
، فيُنصت إليها منْ وراءِ بابها ، وهي تقرأُ ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ﴾ ، تعيدُها
وتكرِّرُها ، فيقولُ : (( نعم أتاني ، نعم أتاني )) .
إنَّ للاستماعِ
حلاوةً ، وللإنصاتِ طلاوةً .
أحدُ الكُتاّبِ
اللامعين المسلمين سافر إلى أوربا ، فأبحر في سفينةٍ ، وركبتُ معه امرأةٌ منْ
يوغسلافيا ، شيوعيَّةٌ فرَّتْ منْ ظُلمٍ ومنْ قهرِ تيتو ، فأدركتْه صلاةُ
الجمعةِ مع زملائِه ، فقام فخطبهم ، ثم
صلَّى بهمْ وقرأ سورة الأعلى والغاشية ، وكانتِ المرأةُ لا تجيدُ العربية ، كانتْ
تُنصتُ إلى الكلام وإلى الجرْسِ وإلى النَّغمةِ ، وبعد الصلاةِ سألتْ هذا الكاتب
عن هذهِ الآياتِ ؟ فأخبرها أنها من كلامِ اللهِ عزَّ وجَّل ، فبقيتْ مدهوشةً
مذهولةً ، قال : ولم تمكنّي لغتي لأدعُوها إلى الإسلامِ : ﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن
يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ .
إنَّ للقرآنِ
سلطاناً على القلوبِ ، وهيبةٌ على الأرواحِ ، وقوةً مؤثَّرةً فاعلةً على النفوسِ.
عجبتُ لأناسٍ من
السلفِ الأخبارِ ، ومن المتقدِّمين الأبرار، انهدُّوا أمام تأثيرِ القرآن ،وأمام
إيقاعاتِه الهائلةِ الصادقةِ النافذةِ : ﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ
لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ .
فذاك عليُّ بنُ
الفُضيل بن عياضٍ يموتُ لمَّا سمع أباه يقرأُ : ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ{24} مَا لَكُمْ لَا
تَنَاصَرُونَ ﴾ .
وعمرُ رضي اللهُ
عنه وأرضاهُ منْ سماعِه لآيةٍ ، ويبقى مريضاً شهراً كاملاً يُعادُ ، كما يُعادُ
المريضُ ، كما ذكر ذلك ابنُ كثيرٍ . ﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ
الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى ﴾ .
وعبدُاللهِ بنُ
وهبٍ ، مرَّ يوم الجمعةِ فسمع غلاماً يقرأُ : ﴿ وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ... ﴾ فأُغمي عليه ، ونُقل إلى بيتهِ ، وبقي ثلاثة أيامٍ
مريضاً ، ومات في اليوم الرابعِ . ذَكَرَه الذهبيُّ .
وأخبرني عالمٌ أنه
صلَّى في المدينةِ ، فقرأ القارئُ بسورةِ الواقعةِ ، قال : فأصابني من الذهولِ ومن
الوجلِ ما جعلني اهتزُّ مكاني ، وأتحرَّكُ بغيرِ إرادةٍ مني ، مع بكاءٍ ، ودمعِ
غزيرٍ . ﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ .
ولكنْ ما علاقةُ
هذا الحديثِ بموضوعِنا عنِ السعادةِ ؟!
إنَّ التشويش الذي
يعيشُه الإنسانُ في الأربعِ والعشرين ساعةً كفيلٌ أنْ يُفقِده وعيهُ ، وأن يُقلقه
، وأن يُصيبه بالإحباطِ ، فإذا رَجَعَ وأنصت وسَمَعَ وتدبَّر كلام المولى ، بصوتٍ
حسنٍ منْ قارئٍ خاشعٍ ، ثاب إليه رُشدُه ، وعادتْ إليه نفسهُ ، وقرَّتْ بلابلهُ ،
وسكنتْ لواعِجُه . إنني أُحذَّرك بهذا الكلامِ عنْ قومٍ جعلُوا الموسيقى أسباب
أُنسِهمْ وسعادتِهمْ وارتياحِهم ، وكتبُوا في ذلك كُتُباً ، وتبجَّح كثيرٌ منهمْ
بأنَّ أجمل الأوقات وأفضل الساعات يوم يُنصت إلى الموسيقى ، بلْ إنَّ الكُتَّاب
الغربيين الذين كتبُوا عن السعادةِ وطردِ القلقِ يجعلون منْ عواملِ السعادةِ
الموسيقى . ﴿ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء
وَتَصْدِيَةً ﴾ ، ﴿ سَامِراً تَهْجُرُونَ
﴾ .
إنَّ هذا بديلٌ
آثِم ، واستماعٌ محرَّم ، وعندنا الخيْرُ الذي نزل على محمدٍ r ،
والصِّدقُ والتوجيهُ الرَّاشدُ الحكيمُ ، الذي تضمَّنه كتاب اللهِ عزَّ وجلَّ : ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا
مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ .
فسماعٌنا للقرآنِ
سماعٌ إيمانيٌّ شرعيٌّ محمديٌّ سنيٌّ ﴿ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا
عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ ﴾ ،
وسماعُهم للموسيقى سماعٌ لاهٍ عابثٌ ، لا يقومُ به إلا الجَهَلةُ والحمقى
والسُّفهاءُ من الناسِ ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ
اللَّهِ ﴾ .
*****************************************
كنتُ جالساً في
الحرَمِ في شدَّةِ الحرّ ، قبل صلاةِ الظهرِ بساعةٍ ، فقام رجلٌ شيخٌ كبيرٌ ، وأخذ
يُباشِرُ على الناسِ بالماءِ الباردِ ، فيأخذُ بيدهِ اليُمنى كوباً ، وفي اليُسرى
كوباً ، ويسقيهمُ منْ ماءِ زمزم ، فكلَّما شرب شاربٌ ، عاد فأسقى جارهُ ، حتى أسقى
فِئاماً من الناسِ ، وعَرَقُه يتصبَّبُ ، والناسُ جلوسٌ كلٌّ ينتظرُ دوره ليشرب
منْ يدِ هذه الشيخِ الكبيرِ ، فعجبتُ منْ جلدِهِ ومنْ صبرِهِ ومنْ حبِّه للخيرِ ،
ومن إعطائِه هذا الماءَ للناسِ وهو يتبسَّمُ ، وعلمتُ أنَّ الخير يسيرٌ على منْ
يسرَّه اللهُ عليه ، وأنَّ فِعْلَ الجميِل سَهْلٌ على منْ سهَّلهُ اللهُ عليه ،
وأنَّ للهِ ادِّخاراتٍ من الإحسانِ ، يمنحُها منْ يشاءُ منْ عبادهِ ، وأنَّ اللهُ
يُجري الفضائل ولو كانتْ قليلةً على يدِ أناسٍ خيرِّين ، يحبُّون الخيْر لعبادِ
اللهِ ، ويكرهون الشَّرَّ لهم .
أبو بكر يعرِّضُ
نفسه للخطرِ في الهجرةِ ، حمايةً للرسولِ r .
وحاتمُ ينامُ
جائعاً ، ليشبع ضيوفه .
وأبو عبيدة يسهرُ
على راحةِ جيشِ المسلمين .
وعمرُ يطوفُ
المدينة والناسُ نيامٌ .
ويتلوى من الجوعِ
عام الرَّمادة ، ليُطعم الناس .
وأبو طلحة يتلقى
السهام في أُحُدٍ ، ليقي رسول اللهِ r .
وابنُ المباركِ
يُباشِرُ على الناسِ بالطعامِ وهو صائمٌ .
ذهبوا يرون الذكر عمراً ثانيا | | ومضوا يعدُّون الثناء خلودا |
﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ﴾ .
********************************************
أنْصِتْ لكلامِ اللهِ
هدِّئ أعصابك بالإنصاتِ
إلى كتابِ ربِّك ، تلاوةً مُمتعةً حسنةً مؤثِّرةً منْ كتابِ اللهِ ، تسمعُها منْ
قارئٍ مجوِّدٍ حَسَنِ الصوتِ ، تصلُك على رضوانِ اللهِ عزَّ وجلَّ ، وتُضفي على
نفسِك السكينة ، وعلى قلبِك يقيناً وبرداً وسلاماً .
كان r يحبُّ
أنْ يسمع القرآن منْ غيرِهِ ، وكان r يتأثَّرُ
إذا سمع القرآن منْ سواهُ ، وكان يطلُبُ منْ أصحابِه أنْ يقرؤوا عليهِ ، وقد أُنزل
عليهِ القرآنُ هو ، فيستأنسُ r ويخشعُ
ويرتاحُ .
إنَّ لك فيهِ أسوةً
أنْ يكون لك دقائقُ ، أو وقتٌ من اليومِ أو الليلِ ، تفتحُ فيهِ المذياع أو
مسجّلاً ، لتستمع إلى القارئِ الذي يعجبُك ، وهو يتلو كلام اللهِ عزَّ وجلَّ .
إنَّ ضجَّة الحياةِ
وبلبلة الناسِ ، وتشويش الآخرين ، كفيلٌ بإزعاجِك ، وهدِّ قُواك ، وبتشتيتِ خاطرِك
. وليس لك سكينةٌ ولا طمأنينةٌ ، إلاَّ في كتابِ ربِّك وفي ذكرِ مولاك : ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ
بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ
﴾ .
يأمرُ r ابن
مسعودٍ ، فيقرأ عليه منْ سورةِ النساءِ ، فيبكي r حتى
تنهمر دموعُه على خدِّه ، ويقولُ : (( حسْبُك الآن )) .
ويمرُّ بأبي موسى
الأشعريِّ ، وهو يقرأُ في المسجدِ ، فيُنصتُ لهُ ، فيقولُ له في الصباحِ : ((
لو رأيتني البارحة وأنا أستمعُ لقراءتِك )) ، قال أبو موسى : لو أعلمُ يا رسول
الله أنك تستمعُ لي ، لحبَّرْتُهُ لك تحبيراً .
عند ابن أبي حاتم
يمرُّ r بعجوزٍ
، فيُنصت إليها منْ وراءِ بابها ، وهي تقرأُ ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ﴾ ، تعيدُها
وتكرِّرُها ، فيقولُ : (( نعم أتاني ، نعم أتاني )) .
إنَّ للاستماعِ
حلاوةً ، وللإنصاتِ طلاوةً .
أحدُ الكُتاّبِ
اللامعين المسلمين سافر إلى أوربا ، فأبحر في سفينةٍ ، وركبتُ معه امرأةٌ منْ
يوغسلافيا ، شيوعيَّةٌ فرَّتْ منْ ظُلمٍ ومنْ قهرِ تيتو ، فأدركتْه صلاةُ
الجمعةِ مع زملائِه ، فقام فخطبهم ، ثم
صلَّى بهمْ وقرأ سورة الأعلى والغاشية ، وكانتِ المرأةُ لا تجيدُ العربية ، كانتْ
تُنصتُ إلى الكلام وإلى الجرْسِ وإلى النَّغمةِ ، وبعد الصلاةِ سألتْ هذا الكاتب
عن هذهِ الآياتِ ؟ فأخبرها أنها من كلامِ اللهِ عزَّ وجَّل ، فبقيتْ مدهوشةً
مذهولةً ، قال : ولم تمكنّي لغتي لأدعُوها إلى الإسلامِ : ﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن
يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ .
إنَّ للقرآنِ
سلطاناً على القلوبِ ، وهيبةٌ على الأرواحِ ، وقوةً مؤثَّرةً فاعلةً على النفوسِ.
عجبتُ لأناسٍ من
السلفِ الأخبارِ ، ومن المتقدِّمين الأبرار، انهدُّوا أمام تأثيرِ القرآن ،وأمام
إيقاعاتِه الهائلةِ الصادقةِ النافذةِ : ﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ
لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ .
فذاك عليُّ بنُ
الفُضيل بن عياضٍ يموتُ لمَّا سمع أباه يقرأُ : ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ{24} مَا لَكُمْ لَا
تَنَاصَرُونَ ﴾ .
وعمرُ رضي اللهُ
عنه وأرضاهُ منْ سماعِه لآيةٍ ، ويبقى مريضاً شهراً كاملاً يُعادُ ، كما يُعادُ
المريضُ ، كما ذكر ذلك ابنُ كثيرٍ . ﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ
الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى ﴾ .
وعبدُاللهِ بنُ
وهبٍ ، مرَّ يوم الجمعةِ فسمع غلاماً يقرأُ : ﴿ وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ... ﴾ فأُغمي عليه ، ونُقل إلى بيتهِ ، وبقي ثلاثة أيامٍ
مريضاً ، ومات في اليوم الرابعِ . ذَكَرَه الذهبيُّ .
وأخبرني عالمٌ أنه
صلَّى في المدينةِ ، فقرأ القارئُ بسورةِ الواقعةِ ، قال : فأصابني من الذهولِ ومن
الوجلِ ما جعلني اهتزُّ مكاني ، وأتحرَّكُ بغيرِ إرادةٍ مني ، مع بكاءٍ ، ودمعِ
غزيرٍ . ﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ .
ولكنْ ما علاقةُ
هذا الحديثِ بموضوعِنا عنِ السعادةِ ؟!
إنَّ التشويش الذي
يعيشُه الإنسانُ في الأربعِ والعشرين ساعةً كفيلٌ أنْ يُفقِده وعيهُ ، وأن يُقلقه
، وأن يُصيبه بالإحباطِ ، فإذا رَجَعَ وأنصت وسَمَعَ وتدبَّر كلام المولى ، بصوتٍ
حسنٍ منْ قارئٍ خاشعٍ ، ثاب إليه رُشدُه ، وعادتْ إليه نفسهُ ، وقرَّتْ بلابلهُ ،
وسكنتْ لواعِجُه . إنني أُحذَّرك بهذا الكلامِ عنْ قومٍ جعلُوا الموسيقى أسباب
أُنسِهمْ وسعادتِهمْ وارتياحِهم ، وكتبُوا في ذلك كُتُباً ، وتبجَّح كثيرٌ منهمْ
بأنَّ أجمل الأوقات وأفضل الساعات يوم يُنصت إلى الموسيقى ، بلْ إنَّ الكُتَّاب
الغربيين الذين كتبُوا عن السعادةِ وطردِ القلقِ يجعلون منْ عواملِ السعادةِ
الموسيقى . ﴿ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء
وَتَصْدِيَةً ﴾ ، ﴿ سَامِراً تَهْجُرُونَ
﴾ .
إنَّ هذا بديلٌ
آثِم ، واستماعٌ محرَّم ، وعندنا الخيْرُ الذي نزل على محمدٍ r ،
والصِّدقُ والتوجيهُ الرَّاشدُ الحكيمُ ، الذي تضمَّنه كتاب اللهِ عزَّ وجلَّ : ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا
مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ .
فسماعٌنا للقرآنِ
سماعٌ إيمانيٌّ شرعيٌّ محمديٌّ سنيٌّ ﴿ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا
عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ ﴾ ،
وسماعُهم للموسيقى سماعٌ لاهٍ عابثٌ ، لا يقومُ به إلا الجَهَلةُ والحمقى
والسُّفهاءُ من الناسِ ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ
اللَّهِ ﴾ .
*****************************************