ثمراتُ
الرِّضا اليانعة
﴿ رَّضِيَ اللّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ .
وللرضا ثمراتٌ إيمانيةٌ كثيرةٌ وافرةٌ تنتجُ
عنه ، يرتفعُ بها الراضي إلى أعلى المنازلِ ، فيُصبحُ راسخاً في يقيِنه ، ثابتاً
في اعتقادِه ، وصادقاً في أقوالِه وأعمالِه وأحوالِه .
فتمامُ عبوديِّتِه في جَرَيانِ ما يكرهُهُ من
الأحكام عليه . ولو لم يجْرِ عليه منها إلاَّ ما يحبُّ ، لكان أبْعَد شيءٍ عنْ
عبوديَّة ربِّه ، فلا تتمُّ له عبوديَّة . من الصَّبرِ والتَّوكلِ والرِّضا
والتضرُّعِ والافتقارِ والذُّلِّ والخضوعِ وغَيْرِها – إلاَّ بجريانِ القدرِ له
بما يكرهُ ، وليس الشأنُ في الرضا بالقضاءِ الملائم للطبيعةِ ، إنما الشأنُ في
القضاءِ المُؤْلِمِ المنافِرِ للطَّبْعِ . فليس للعبدِ أنْ يتحكَّم في قضاءِ اللهِ
وقدرِه ، فيرضى بما شاء ويرفضُ ما شاء ، فإنَّ البشر ما كان لهمِ الخِيَرَةُ ، بلْ
الخيرةُ اللهِ ، فهو أعْلمُ وأحْكمُ وأجلُّ وأعلى ، لأنه عالمُ الغيبِ المطَّلِعُ
على السرائرِ ، العالمُ بالعواقبِ المحيطُ بها .
رضاً
برضا :
ولْيَعْلم أنَّ رضاه عن ربِّه سبحانهُ وتعالى
في جميعِ الحالاتِ ، يُثمِرُ رضا ربُه عنه ، فإذا رضي عنه بالقليلِ من الرِّزقِ ،
رضي ربُّه عنه بالقليلِ من العملِ ، وإذا رضي عنه في جميع الحالاتِ ، واستوتْ
عندهُ ، وجدهُ أسْرَعَ شيءٍ إلى رضاهُ إذا ترضَّاه وتملَّقه ؛ ولذلك انظرْ
للمُخلصيِن مع قِلَّةِ عملهِم ، كيف رضي اللهُ سعيهم لأنهمْ رضُوا عنهُ ورضي عنهمْ
، بخلافِ المنافقين ، فإنَّ الله ردَّ عملهم قليلهُ وكثيرهُ ؛ لأنهمِ سخِطُوا ما
أنزلَ الله وكرهُوا رضوانهُ ، فأحبط أعمالهم .
منْ
سخِط فلهُ السُّخْطُ :
والسُّخطُ بابُ الهمِّ والغمِّ والحزنِ ،
وشتاتِ القلبِ ، وكسفِ البالِ ، وسُوءِ الحالِ ، والظَّنِّ بالله خلافُ ما هو
أهلُه . والرضا يُخلِّصُه منْ ذلك كلِّه ، ويفتحُ له باب جنةِ الدنيا قبل الآخرةِ
، فإنَّ الارتياح النفسيَّ لا يتمُّ بمُعاكسةِ الأقدارِ ومضادَّة القضاءِ ، بل
بالتسليمِ والإذعانِ والقبُولِ ، لأنَّ مدبِّر الأمرِ حكيمٌ لا يُتَّهمُ في قضائِه
وقدرهِ ، ولا زلتُ أذكرُ قصة ابن الراونديِّ الفيلسوف الذَّكّيِ الملحدِ ، وكان
فقيراً ، فرأى عاميّاً جاهلاً مع الدُّورِ والقصورِ والأموالِ الطائلةِ ، فنظر إلى
السماءِ وقال : أنا فيلسوفُ الدنيا وأعيشُ فقيراً ، وهذا بليدٌ جاهلٌ ويحيا غنيّاً
، وهذه قِسمةٌ ضِيزى . فما زادهُ اللهُ إلا مقْتاً وذُلاّ وضنْكاً ﴿ وَلَعَذَابُ
الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ ﴾ .
فوائدُ
الرِّضا :
فالرِّضا يُوجِبُ له الطُّمأنينة ، وبرد القلبِ
، وسكونهُ وقراره وثباتهُ عند اضطرابِ الشُّبهِ والتباسِ والقضايا وكثْرةِ الواردِ
، فيثقُ هذا القلبُ بموعودِ اللهِ وموعودِ رسوله r ، ويقولُ
لسانُ الحالِ : ﴿ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ﴾ . والسخطُ يوجبُ اضطراب قلبِه ، وريبتهُ
وانزعاجهُ ، وعَدَمَ قرارِهِ ، ومرضهُ وتمزُّقهُ ، فيبقى قلِقاً ناقِماً ساخِطاً
متمرِّداً ، فلسانُ حالِه يقولُ : ﴿ مَّا وَعَدَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ﴾ . فأصحابُ هذه القلوبِ إن يكُن لهمُ الحقُّ ،
يأتوا إليه مُذعِنِين ، وإن طُولِبوا بالحقِّ إذا همْ يصْدفِون ، وإنْ أصابهم خيرٌ
اطمأنٌّوا به ، وإنْ أصابتهم فتنةٌ انقلبُوا على وجوههِم ، خسرُوا الدنيا والآخرةِ
﴿ ذَلِكَ
هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ . كما أنّ الرضا يُنزلُ عليه السكينة التي لا
أَنْفَعَ له منها ، ومتى نزلتْ عليه السكينةُ ، استقام وصلحتْ أحوالُه ، وصلح
بالُه ، والسُّخط يُبعِدُه منها بحسبِ قلَّتِه وكثرتِه ، وإذا ترحَّلتْ عنهُ
السكينةُ ، ترحَّل عنه السرورُ والأمْنُ والراحةُ وطِيبُ العيشِ . فمنْ أعْظَمِ
نعمِ اللهِ على عبدِه : تنزُّلُ السكينةِ عليهِ . ومنْ أعظمِ أسبابِها : الرضا عنه
في جميعِ الحالاتِ .
لا
تُخاصِم ربَّك :
والرضا يخلِّصُ العبد منْ مُخاصمةِ الربِّ
تعالى في أحكامِه وأقضيتِه . فإنَّ السُّخط عليهِ مُخاصمةٌ له فيما لم يرض به
العبدُ ، وأصلُ مخاصمةِ إبليس لربِّه : منْ عَدَمِ رضاه بأقْضِيَتِه ، وأحكامِه
الدِّينيِة والكونيِة . وإنَّما ألحد منْ ألحدَ ، وجَحِدَ منْ جحد لأنهُ نازعَ
ربَّه رداء العظمةِ وإزار الكبرياءِ ، ولم يُذعِنْ لمقامِ الجبروتِ ، فهو يُعطِّلُ
الأوامر ، وينتهِكُ المناهي ، ويتسخَّطُ المقادير ، ولم يُذعِنْ للقضاءِ .
حُكْمٌ
ماضٍ وقضاءٌ عَدْلٌ :
وحُكمُ الرَّبِّ ماضٍ في عبدِه ، وقضاؤُه عدْلٌ
فيه ، كما في الحديثِ : (( ماضٍ فيَّ حكمُك ، عَدْلٌ في قضاؤك )) . ومنْ لم
يرض بالعدلِ ، فهو منْ أهلِ الظُّلمِ والجوْرِ . واللهُ أحكمُ الحاكمين ، وقدْ
حرَّ الظلُّمَ على نفسِه ، وليس بظلاَّمٍ للعبيدِ ، وتقدَّس سبحانه وتنزَّه عنْ
ظُلْمِ الناسِ ، ولكنّ أنْفُسهم يظلمون .
وقولُه : ((عَدْلٌ في قضاؤك )) يَعُمُّ
قضاء الذنبِ ، وقضاء أثرِهِ وعقوبتِه ، فإنَّ الأمرينِ منْ قضائِه عزَّ وجلَّ ،
وهو أعدلُ العادلين في قضائِه بالذنبِ ، وفي قضائِه بعقوبتِه . وقد يقضي سبحانه
بالذنبِ على العبدِ لأسرارٍ وخفايا هو أعْلَمُ بها ، قد يكونُ لها من المصالحِ
العظيمِة ما لا يعلمُها إلا هُو .
لا
فائدة في السُّخطِ :
وعدمُ الرَّضا : إمَّا أنْ يكون لفواتِ ما
أخطأهُ ممَّ يحبُّه ويريدهُ ، وإمّا لإصابةٍ بما يكرهُه ويُسخطُه . فإذا تيقَّن
أنَّ ما أخطأه لم يكُنْ ليُصيبَه ، وما أصابه لم يكنْ ليُخطئه ، فلا فائدة في
سخطِه بعد ذلك إلا فواتُ ما ينفعُه ، وحصولُ ما يضرُّه . وفي الحديث : (( جفَّ
القلمُ بما أنت لاقٍ يا أبا هريرة ، فقدْ فُرِغَ من القضاءِ ، وانتُهِي من القدرِ
، وكُتِبتِ المقاديرُ ، ورُفِعتِ الأقلامُ ، وجفَّتِ الصُّحُفُ )) .
السلامةُ
مع الرِّضا :
والرضا يفتحُ له باب السلامةِ ، فيجعلُ قلبهُ
سليماً ، نقيّاً من الغشِّ والدَّغلِ والغلِّ ، ولا ينجو منْ عذابِ اللهِ إلا منْ
أتى الله بقلبٍ سليمٍ ، وهو السَّالِمُ من الشُّبهِ ، والشَّكِّ والشِّركِ ،
وتلبُّسِ إبليس وجُندِه ، وتخذيلِهِ وتسويفِهِ، ووعْدِه ووعيدِه ، فهذا القلبُ ليس
فيهِ إلا اللهُ: ﴿قُلِ اللّهُ ثُمَّ
ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ .
وكذلك تستحيلُ سلامةُ القلبِ من السُّخطِ وعدمِ
الرضا ، وكلَّما كان العبدُ أشدَّ رضاً ، كان قلبُه أسْلَمَ . فالخبثُ والدَّغَلُ
والغشُّ : قرينُ السُّخطِ . وسلامةُ القلبِ وبرُّه ونُصحُه : قرينُ الرضا . وكذلك
الحسدُ هو منْ ثمراتِ السخطِ . وسلامةُ القلبِ منهُ : منْ ثمراتِ الرضا . فالرضا
شجرةٌ طيِّبة ، تُسقى بماءِ الإخلاصِ في بستانِ التوحيدِ ، أصلُها الإيمانُ ،
وأغصانُها الأعمالُ الصالحةُ ، ولها ثمرةٌ يانِعةٌ حلاوتُها . في الحديثِ : ((
ذاق طعْم الإيمانِ منْ رضي باللهِ ربّاً ، وبالإسلام ديِناً ، وبحمدٍ نبياً ))
. وفي الحديث أيضاً : (( ثلاثٌ منْ كنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمانِ .... ))
.
السُّخْطُ
بابُ الشَّكِّ :
والسُّخطُ يفتحُ عليهِ باب الشَّكِّ في اللهِ ،
وقضائه ، وقدرِه ، وحكمتِهِ وعلمِهِ ، فقلَّ أنْ يَسْلَمَ الساخِطُ منْ شكٍّ
يُداخلُ قلبه ، ويتغلغلُ فيه ، وإنْ كان لا يشعرُ به ، فلوْ فتَّش نفسه غاية
التفتيشِ ، لوَجَدَ يقينهُ معلولاً مدخولاً ، فإنَّ الرضا واليقين أخوانِ
مُصطحبانِ ، والشَّكَّ والسُّخط قرينانِ ، وهذا معنى الحديثِ الذي في الترمذيِّ : ((
إنِ استطعت أن تعمل بالرِّضا مع اليقينِ ، فافعل . فإن لم تستطع ، فإن في الصبر
على ما تكره النَّفْسُ خيْراً كثيراً )) . فالساخطُون ناقِمون منْ الداخلِ ،
غاضبِون ولوْ لمْ يتكلمَّوا ، عندهم إشكالاتٌ وأسئلةٌ ، مفادُها : لِم هذا ؟ وكيف
يكونُ هذا ؟ ولماذا وقع هذا ؟
الرِّضا
غِنىً وأمْنٌ :
ومنْ ملأ قلبه من الرضا بالقدر ، ملأ اللهُ
صدرهُ غِنىً وأمْناً وقناعةً ، وفرَّغ قلبه لمحبَّتِه والإنابِة إليه ،
والتَّوكُّلِ عليه . ومنْ فاته حظُّه من الرِّضا ، امتلأ قلبُه بضدِّ ذلك ، واشتغل
عمَّا فيه سعادتُه وفلاحُه .
فالرِّضا يُفرِّغُ القلب للهِ ، والسخطُ
يفرِّغُ القلب من اللهِ ، ولا عيش لساخِطٍ ، ولا قرار لناقِمٍ ، فهو في أمر مريجٍ
، يرى أنَّ رزقهُ ناقصٌ ، وحظَّهُ باخِسٌ ، وعطيَّتهُ زهيدةٌ ، ومصائبهُ جمَّةٌ ،
فيرى أنه يستحقّ أكْثر منْ هذا ، وأرفع وأجلَّ ، لكنّ ربَّه – في نظرِهِ – بخسهُ
وحَرَمَه ومنعَهُ وابتلاه ، وأضناهُ وأرهَقَه ، فكيف يأنسُ وكيف يرتاح ، وكيف يحيا
؟ ﴿ ذَلِكَ
بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ
أَعْمَالَهُمْ ﴾ .
ثمرةُ
الرِّضا الشُّكْرُ :
والرضا يُثمرُ الشكر الذي هو منْ أعلى مقاماتِ
الإيمانِ ، بل هو حقيقةُ الإيمانِ . فإنَّ غاية المنازلِ شكرِ المولى ، ولا يشكُرُ
اللهُ منْ يرضى بمواهبه وأحكامِه ، وصُنعِه وتدبيرِه ، وأخذِه وعطائِه ، فالشاكرُ
أنْعمُ الناسِ بالاً ، وأحسنُهم حالاً .
ثمرةُ
السُّخطِ الكفرُ :
والسخطُ يُثمِر ضدَّه ، وهو كُفْرُ
النِّعمِ ، وربما أثمر له كُفْر المنعِم .
فإذا رضي العبدُ عن ربِّه في جميعِ الحالاتِ ، أوجب له لذلك شُكره ، فيكونُ من الراضين
الشاكرين . وإذا فاتهُ الرضا ، كان من الساخطين ، وسلك سُبُل الكافرين . وإنما وقع
الحيْفُ في الاعتقاداتِ والخللُ في الدياناتِ مِنْ كوْنٍ كثيرٍ من العبيدِ يريدون
أن يكونوا أرباباً ، بلْ يقترحون على ربِّهم ، ويُحِلُّون على مولاهم ما يريدون: ﴿ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ .
السُّخطُ
مصيدةٌ للشيطانِ :
والشيطانُ إنما يظفرُ بالإنسانِ غالباً عند
السخطِ والشهوةِ ، فهناك يصطادُه ، ولاسيَّما إذا استحكم سخطُه ، فإنهُ يقولُ ما
لا يُرضي الرَّبَّ ، ويفعلُ ما لا يُرضيه ، وينوي ما لا يُرضيهِ ، ولهذا قال
النبيَّ r عند موت
ابنهِ إبراهيم : (( يحزنُ القلبُ وتدمعُ العينُ ، ولا نقولُ إلا ما يُرضي
ربَّنا )) . فإنَّ موت البنين من العوارضِ التي تُوجِبُ للعبدِ السخط على
القَدَرِ ، فأخبرَ النبيُّ r أنهُ لا يقولُ في
مثْلِ هذا المقامِ – الذي يسخطُه أكثرُ الناسِ ، فيتكلَّمون بما لا يُرضي الله ،
ويفعلون ما لا يرضيه – إلا ما يُرضي ربَّه تبارك وتعالى . ولو لمح العبدُ في
القضاءِ بما يراهُ مكروهاً إلى ثلاثةِ أُمورٍ ، لهان عليه المصابُ .
أوَّلها : علمُه بحكمةِ
المقدِّرِ جلَّ في علاه ، وأنهُ أخْبَرُ بمصلحةِ العبدِ وما ينفعُه .
ثانيها : أنْ ينظر للأجرِ
العظيمِ والثوابِ الجزيلٍ ، كما وعد اللهُ منْ أُصِيب فصبر مِنْ عبادِهِ .
ثالثُها : أن الحُكم والأمر
للرَّبِّ ، والتسليم والإذعان للعبدِ : ﴿ أَهُمْ
يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ﴾ .
الرِّضا
يُخرجُ الهوى :
والرضا يُخرجُ الهوى من القلبِ ، فالراضي هواهُ
تبعٌ لمرادِ ربِّه منه ، أعني المراد الذي يحبُّه ربُّه ويرضاهُ ، فلا يجتمعُ
الرضا واتِّباعُ الهوى في القلبِ أبداً ، وإنْ كان معهُ شُعبةٌ منْ هذا ، وشعبةٌ
منْ هذا ، فهو للغالِب عليه منهما .
﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ
رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ .
******************************************
وقفـــة
(( تعرَّفْ إلى اللهِ في الرخاءِ ، يعرفْك في
الشِّدَّة )) .
« (تعرَّفْ)
بتشديدِ الرَّاءِ (إلى اللهِ) أيْ : تحبَّبْ وتقرَّبْ إليهِ بطاعتِه ،
والشُّكرِ لهُ على سابغِ نعمتِه ، والصبر تحت مُرِّ أقْضِيتِهِ ، وصدْقِ الالتجاءِ
الخاصِ قبل نزولِ بليَّتِه . (في الرخاءِ) أيْ : في الدَّعةِ والأمْنِ
والنعمةِ وسَعَةِ العمرِ وصحَّةِ البدنِ ، فالزمِ الطاعاتِ والإنفاق في القُرُباتِ
، حتى تكون متَّصِفاً عنده بذلك ، معروفاً به . (يعرفْك في الشِّدَّة)
بتفريجِها عنك ، وجعْلِه لك منْ كلِّ ضِيقٍ مخرجاً ، ومنْ كلِّ همٍّ فرجاً ، بما
سلف منْ ذلك التَّعرُّفِ » .
« ينبغي أنْ يكون
بين العبدِ وبين رِّبهِ معرفةٌ خاصَّةٌ بقلبِهِ ، بحيثُ يجدُه قريباً للاستغناءِ
لهُ منهُ ، فيأنسُ بهِ في خلوتِه ، ويجدُ حلاوة ذكْرِه ودعائِه ومناجاتِه وطاعتِه
، ولا يزالُ العبدُ يقع في شدائد وكُربٍ في الدنيا والبرْزخِ والموقفِ ، فإذا كان
بينهُ وبين ربِّه معرفةٌ خاصَّة ، كفاهُ ذلك كلُّه » .
*************************************
الرِّضا اليانعة
﴿ رَّضِيَ اللّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ .
وللرضا ثمراتٌ إيمانيةٌ كثيرةٌ وافرةٌ تنتجُ
عنه ، يرتفعُ بها الراضي إلى أعلى المنازلِ ، فيُصبحُ راسخاً في يقيِنه ، ثابتاً
في اعتقادِه ، وصادقاً في أقوالِه وأعمالِه وأحوالِه .
فتمامُ عبوديِّتِه في جَرَيانِ ما يكرهُهُ من
الأحكام عليه . ولو لم يجْرِ عليه منها إلاَّ ما يحبُّ ، لكان أبْعَد شيءٍ عنْ
عبوديَّة ربِّه ، فلا تتمُّ له عبوديَّة . من الصَّبرِ والتَّوكلِ والرِّضا
والتضرُّعِ والافتقارِ والذُّلِّ والخضوعِ وغَيْرِها – إلاَّ بجريانِ القدرِ له
بما يكرهُ ، وليس الشأنُ في الرضا بالقضاءِ الملائم للطبيعةِ ، إنما الشأنُ في
القضاءِ المُؤْلِمِ المنافِرِ للطَّبْعِ . فليس للعبدِ أنْ يتحكَّم في قضاءِ اللهِ
وقدرِه ، فيرضى بما شاء ويرفضُ ما شاء ، فإنَّ البشر ما كان لهمِ الخِيَرَةُ ، بلْ
الخيرةُ اللهِ ، فهو أعْلمُ وأحْكمُ وأجلُّ وأعلى ، لأنه عالمُ الغيبِ المطَّلِعُ
على السرائرِ ، العالمُ بالعواقبِ المحيطُ بها .
رضاً
برضا :
ولْيَعْلم أنَّ رضاه عن ربِّه سبحانهُ وتعالى
في جميعِ الحالاتِ ، يُثمِرُ رضا ربُه عنه ، فإذا رضي عنه بالقليلِ من الرِّزقِ ،
رضي ربُّه عنه بالقليلِ من العملِ ، وإذا رضي عنه في جميع الحالاتِ ، واستوتْ
عندهُ ، وجدهُ أسْرَعَ شيءٍ إلى رضاهُ إذا ترضَّاه وتملَّقه ؛ ولذلك انظرْ
للمُخلصيِن مع قِلَّةِ عملهِم ، كيف رضي اللهُ سعيهم لأنهمْ رضُوا عنهُ ورضي عنهمْ
، بخلافِ المنافقين ، فإنَّ الله ردَّ عملهم قليلهُ وكثيرهُ ؛ لأنهمِ سخِطُوا ما
أنزلَ الله وكرهُوا رضوانهُ ، فأحبط أعمالهم .
منْ
سخِط فلهُ السُّخْطُ :
والسُّخطُ بابُ الهمِّ والغمِّ والحزنِ ،
وشتاتِ القلبِ ، وكسفِ البالِ ، وسُوءِ الحالِ ، والظَّنِّ بالله خلافُ ما هو
أهلُه . والرضا يُخلِّصُه منْ ذلك كلِّه ، ويفتحُ له باب جنةِ الدنيا قبل الآخرةِ
، فإنَّ الارتياح النفسيَّ لا يتمُّ بمُعاكسةِ الأقدارِ ومضادَّة القضاءِ ، بل
بالتسليمِ والإذعانِ والقبُولِ ، لأنَّ مدبِّر الأمرِ حكيمٌ لا يُتَّهمُ في قضائِه
وقدرهِ ، ولا زلتُ أذكرُ قصة ابن الراونديِّ الفيلسوف الذَّكّيِ الملحدِ ، وكان
فقيراً ، فرأى عاميّاً جاهلاً مع الدُّورِ والقصورِ والأموالِ الطائلةِ ، فنظر إلى
السماءِ وقال : أنا فيلسوفُ الدنيا وأعيشُ فقيراً ، وهذا بليدٌ جاهلٌ ويحيا غنيّاً
، وهذه قِسمةٌ ضِيزى . فما زادهُ اللهُ إلا مقْتاً وذُلاّ وضنْكاً ﴿ وَلَعَذَابُ
الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ ﴾ .
فوائدُ
الرِّضا :
فالرِّضا يُوجِبُ له الطُّمأنينة ، وبرد القلبِ
، وسكونهُ وقراره وثباتهُ عند اضطرابِ الشُّبهِ والتباسِ والقضايا وكثْرةِ الواردِ
، فيثقُ هذا القلبُ بموعودِ اللهِ وموعودِ رسوله r ، ويقولُ
لسانُ الحالِ : ﴿ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ﴾ . والسخطُ يوجبُ اضطراب قلبِه ، وريبتهُ
وانزعاجهُ ، وعَدَمَ قرارِهِ ، ومرضهُ وتمزُّقهُ ، فيبقى قلِقاً ناقِماً ساخِطاً
متمرِّداً ، فلسانُ حالِه يقولُ : ﴿ مَّا وَعَدَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ﴾ . فأصحابُ هذه القلوبِ إن يكُن لهمُ الحقُّ ،
يأتوا إليه مُذعِنِين ، وإن طُولِبوا بالحقِّ إذا همْ يصْدفِون ، وإنْ أصابهم خيرٌ
اطمأنٌّوا به ، وإنْ أصابتهم فتنةٌ انقلبُوا على وجوههِم ، خسرُوا الدنيا والآخرةِ
﴿ ذَلِكَ
هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ . كما أنّ الرضا يُنزلُ عليه السكينة التي لا
أَنْفَعَ له منها ، ومتى نزلتْ عليه السكينةُ ، استقام وصلحتْ أحوالُه ، وصلح
بالُه ، والسُّخط يُبعِدُه منها بحسبِ قلَّتِه وكثرتِه ، وإذا ترحَّلتْ عنهُ
السكينةُ ، ترحَّل عنه السرورُ والأمْنُ والراحةُ وطِيبُ العيشِ . فمنْ أعْظَمِ
نعمِ اللهِ على عبدِه : تنزُّلُ السكينةِ عليهِ . ومنْ أعظمِ أسبابِها : الرضا عنه
في جميعِ الحالاتِ .
لا
تُخاصِم ربَّك :
والرضا يخلِّصُ العبد منْ مُخاصمةِ الربِّ
تعالى في أحكامِه وأقضيتِه . فإنَّ السُّخط عليهِ مُخاصمةٌ له فيما لم يرض به
العبدُ ، وأصلُ مخاصمةِ إبليس لربِّه : منْ عَدَمِ رضاه بأقْضِيَتِه ، وأحكامِه
الدِّينيِة والكونيِة . وإنَّما ألحد منْ ألحدَ ، وجَحِدَ منْ جحد لأنهُ نازعَ
ربَّه رداء العظمةِ وإزار الكبرياءِ ، ولم يُذعِنْ لمقامِ الجبروتِ ، فهو يُعطِّلُ
الأوامر ، وينتهِكُ المناهي ، ويتسخَّطُ المقادير ، ولم يُذعِنْ للقضاءِ .
حُكْمٌ
ماضٍ وقضاءٌ عَدْلٌ :
وحُكمُ الرَّبِّ ماضٍ في عبدِه ، وقضاؤُه عدْلٌ
فيه ، كما في الحديثِ : (( ماضٍ فيَّ حكمُك ، عَدْلٌ في قضاؤك )) . ومنْ لم
يرض بالعدلِ ، فهو منْ أهلِ الظُّلمِ والجوْرِ . واللهُ أحكمُ الحاكمين ، وقدْ
حرَّ الظلُّمَ على نفسِه ، وليس بظلاَّمٍ للعبيدِ ، وتقدَّس سبحانه وتنزَّه عنْ
ظُلْمِ الناسِ ، ولكنّ أنْفُسهم يظلمون .
وقولُه : ((عَدْلٌ في قضاؤك )) يَعُمُّ
قضاء الذنبِ ، وقضاء أثرِهِ وعقوبتِه ، فإنَّ الأمرينِ منْ قضائِه عزَّ وجلَّ ،
وهو أعدلُ العادلين في قضائِه بالذنبِ ، وفي قضائِه بعقوبتِه . وقد يقضي سبحانه
بالذنبِ على العبدِ لأسرارٍ وخفايا هو أعْلَمُ بها ، قد يكونُ لها من المصالحِ
العظيمِة ما لا يعلمُها إلا هُو .
لا
فائدة في السُّخطِ :
وعدمُ الرَّضا : إمَّا أنْ يكون لفواتِ ما
أخطأهُ ممَّ يحبُّه ويريدهُ ، وإمّا لإصابةٍ بما يكرهُه ويُسخطُه . فإذا تيقَّن
أنَّ ما أخطأه لم يكُنْ ليُصيبَه ، وما أصابه لم يكنْ ليُخطئه ، فلا فائدة في
سخطِه بعد ذلك إلا فواتُ ما ينفعُه ، وحصولُ ما يضرُّه . وفي الحديث : (( جفَّ
القلمُ بما أنت لاقٍ يا أبا هريرة ، فقدْ فُرِغَ من القضاءِ ، وانتُهِي من القدرِ
، وكُتِبتِ المقاديرُ ، ورُفِعتِ الأقلامُ ، وجفَّتِ الصُّحُفُ )) .
السلامةُ
مع الرِّضا :
والرضا يفتحُ له باب السلامةِ ، فيجعلُ قلبهُ
سليماً ، نقيّاً من الغشِّ والدَّغلِ والغلِّ ، ولا ينجو منْ عذابِ اللهِ إلا منْ
أتى الله بقلبٍ سليمٍ ، وهو السَّالِمُ من الشُّبهِ ، والشَّكِّ والشِّركِ ،
وتلبُّسِ إبليس وجُندِه ، وتخذيلِهِ وتسويفِهِ، ووعْدِه ووعيدِه ، فهذا القلبُ ليس
فيهِ إلا اللهُ: ﴿قُلِ اللّهُ ثُمَّ
ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ .
وكذلك تستحيلُ سلامةُ القلبِ من السُّخطِ وعدمِ
الرضا ، وكلَّما كان العبدُ أشدَّ رضاً ، كان قلبُه أسْلَمَ . فالخبثُ والدَّغَلُ
والغشُّ : قرينُ السُّخطِ . وسلامةُ القلبِ وبرُّه ونُصحُه : قرينُ الرضا . وكذلك
الحسدُ هو منْ ثمراتِ السخطِ . وسلامةُ القلبِ منهُ : منْ ثمراتِ الرضا . فالرضا
شجرةٌ طيِّبة ، تُسقى بماءِ الإخلاصِ في بستانِ التوحيدِ ، أصلُها الإيمانُ ،
وأغصانُها الأعمالُ الصالحةُ ، ولها ثمرةٌ يانِعةٌ حلاوتُها . في الحديثِ : ((
ذاق طعْم الإيمانِ منْ رضي باللهِ ربّاً ، وبالإسلام ديِناً ، وبحمدٍ نبياً ))
. وفي الحديث أيضاً : (( ثلاثٌ منْ كنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمانِ .... ))
.
السُّخْطُ
بابُ الشَّكِّ :
والسُّخطُ يفتحُ عليهِ باب الشَّكِّ في اللهِ ،
وقضائه ، وقدرِه ، وحكمتِهِ وعلمِهِ ، فقلَّ أنْ يَسْلَمَ الساخِطُ منْ شكٍّ
يُداخلُ قلبه ، ويتغلغلُ فيه ، وإنْ كان لا يشعرُ به ، فلوْ فتَّش نفسه غاية
التفتيشِ ، لوَجَدَ يقينهُ معلولاً مدخولاً ، فإنَّ الرضا واليقين أخوانِ
مُصطحبانِ ، والشَّكَّ والسُّخط قرينانِ ، وهذا معنى الحديثِ الذي في الترمذيِّ : ((
إنِ استطعت أن تعمل بالرِّضا مع اليقينِ ، فافعل . فإن لم تستطع ، فإن في الصبر
على ما تكره النَّفْسُ خيْراً كثيراً )) . فالساخطُون ناقِمون منْ الداخلِ ،
غاضبِون ولوْ لمْ يتكلمَّوا ، عندهم إشكالاتٌ وأسئلةٌ ، مفادُها : لِم هذا ؟ وكيف
يكونُ هذا ؟ ولماذا وقع هذا ؟
الرِّضا
غِنىً وأمْنٌ :
ومنْ ملأ قلبه من الرضا بالقدر ، ملأ اللهُ
صدرهُ غِنىً وأمْناً وقناعةً ، وفرَّغ قلبه لمحبَّتِه والإنابِة إليه ،
والتَّوكُّلِ عليه . ومنْ فاته حظُّه من الرِّضا ، امتلأ قلبُه بضدِّ ذلك ، واشتغل
عمَّا فيه سعادتُه وفلاحُه .
فالرِّضا يُفرِّغُ القلب للهِ ، والسخطُ
يفرِّغُ القلب من اللهِ ، ولا عيش لساخِطٍ ، ولا قرار لناقِمٍ ، فهو في أمر مريجٍ
، يرى أنَّ رزقهُ ناقصٌ ، وحظَّهُ باخِسٌ ، وعطيَّتهُ زهيدةٌ ، ومصائبهُ جمَّةٌ ،
فيرى أنه يستحقّ أكْثر منْ هذا ، وأرفع وأجلَّ ، لكنّ ربَّه – في نظرِهِ – بخسهُ
وحَرَمَه ومنعَهُ وابتلاه ، وأضناهُ وأرهَقَه ، فكيف يأنسُ وكيف يرتاح ، وكيف يحيا
؟ ﴿ ذَلِكَ
بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ
أَعْمَالَهُمْ ﴾ .
ثمرةُ
الرِّضا الشُّكْرُ :
والرضا يُثمرُ الشكر الذي هو منْ أعلى مقاماتِ
الإيمانِ ، بل هو حقيقةُ الإيمانِ . فإنَّ غاية المنازلِ شكرِ المولى ، ولا يشكُرُ
اللهُ منْ يرضى بمواهبه وأحكامِه ، وصُنعِه وتدبيرِه ، وأخذِه وعطائِه ، فالشاكرُ
أنْعمُ الناسِ بالاً ، وأحسنُهم حالاً .
ثمرةُ
السُّخطِ الكفرُ :
والسخطُ يُثمِر ضدَّه ، وهو كُفْرُ
النِّعمِ ، وربما أثمر له كُفْر المنعِم .
فإذا رضي العبدُ عن ربِّه في جميعِ الحالاتِ ، أوجب له لذلك شُكره ، فيكونُ من الراضين
الشاكرين . وإذا فاتهُ الرضا ، كان من الساخطين ، وسلك سُبُل الكافرين . وإنما وقع
الحيْفُ في الاعتقاداتِ والخللُ في الدياناتِ مِنْ كوْنٍ كثيرٍ من العبيدِ يريدون
أن يكونوا أرباباً ، بلْ يقترحون على ربِّهم ، ويُحِلُّون على مولاهم ما يريدون: ﴿ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ .
السُّخطُ
مصيدةٌ للشيطانِ :
والشيطانُ إنما يظفرُ بالإنسانِ غالباً عند
السخطِ والشهوةِ ، فهناك يصطادُه ، ولاسيَّما إذا استحكم سخطُه ، فإنهُ يقولُ ما
لا يُرضي الرَّبَّ ، ويفعلُ ما لا يُرضيه ، وينوي ما لا يُرضيهِ ، ولهذا قال
النبيَّ r عند موت
ابنهِ إبراهيم : (( يحزنُ القلبُ وتدمعُ العينُ ، ولا نقولُ إلا ما يُرضي
ربَّنا )) . فإنَّ موت البنين من العوارضِ التي تُوجِبُ للعبدِ السخط على
القَدَرِ ، فأخبرَ النبيُّ r أنهُ لا يقولُ في
مثْلِ هذا المقامِ – الذي يسخطُه أكثرُ الناسِ ، فيتكلَّمون بما لا يُرضي الله ،
ويفعلون ما لا يرضيه – إلا ما يُرضي ربَّه تبارك وتعالى . ولو لمح العبدُ في
القضاءِ بما يراهُ مكروهاً إلى ثلاثةِ أُمورٍ ، لهان عليه المصابُ .
أوَّلها : علمُه بحكمةِ
المقدِّرِ جلَّ في علاه ، وأنهُ أخْبَرُ بمصلحةِ العبدِ وما ينفعُه .
ثانيها : أنْ ينظر للأجرِ
العظيمِ والثوابِ الجزيلٍ ، كما وعد اللهُ منْ أُصِيب فصبر مِنْ عبادِهِ .
ثالثُها : أن الحُكم والأمر
للرَّبِّ ، والتسليم والإذعان للعبدِ : ﴿ أَهُمْ
يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ﴾ .
الرِّضا
يُخرجُ الهوى :
والرضا يُخرجُ الهوى من القلبِ ، فالراضي هواهُ
تبعٌ لمرادِ ربِّه منه ، أعني المراد الذي يحبُّه ربُّه ويرضاهُ ، فلا يجتمعُ
الرضا واتِّباعُ الهوى في القلبِ أبداً ، وإنْ كان معهُ شُعبةٌ منْ هذا ، وشعبةٌ
منْ هذا ، فهو للغالِب عليه منهما .
إنْ كان رضاكُم في سهري | | فسلامُ اللهِ على وَسَنِي |
﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ
رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ .
إنْ كان سرَّكُمُ ما قال حاسِدُنا | | فما لجرْجٍ إذا أرضاكمو ألمُ |
******************************************
وقفـــة
(( تعرَّفْ إلى اللهِ في الرخاءِ ، يعرفْك في
الشِّدَّة )) .
« (تعرَّفْ)
بتشديدِ الرَّاءِ (إلى اللهِ) أيْ : تحبَّبْ وتقرَّبْ إليهِ بطاعتِه ،
والشُّكرِ لهُ على سابغِ نعمتِه ، والصبر تحت مُرِّ أقْضِيتِهِ ، وصدْقِ الالتجاءِ
الخاصِ قبل نزولِ بليَّتِه . (في الرخاءِ) أيْ : في الدَّعةِ والأمْنِ
والنعمةِ وسَعَةِ العمرِ وصحَّةِ البدنِ ، فالزمِ الطاعاتِ والإنفاق في القُرُباتِ
، حتى تكون متَّصِفاً عنده بذلك ، معروفاً به . (يعرفْك في الشِّدَّة)
بتفريجِها عنك ، وجعْلِه لك منْ كلِّ ضِيقٍ مخرجاً ، ومنْ كلِّ همٍّ فرجاً ، بما
سلف منْ ذلك التَّعرُّفِ » .
« ينبغي أنْ يكون
بين العبدِ وبين رِّبهِ معرفةٌ خاصَّةٌ بقلبِهِ ، بحيثُ يجدُه قريباً للاستغناءِ
لهُ منهُ ، فيأنسُ بهِ في خلوتِه ، ويجدُ حلاوة ذكْرِه ودعائِه ومناجاتِه وطاعتِه
، ولا يزالُ العبدُ يقع في شدائد وكُربٍ في الدنيا والبرْزخِ والموقفِ ، فإذا كان
بينهُ وبين ربِّه معرفةٌ خاصَّة ، كفاهُ ذلك كلُّه » .
*************************************